شعرية النثر في رواية (مشانق العتمة) ليسري الغول

 

د. عبد الرحيم حمدان/ ناقد أدبي

يسعى كتاب الرواية الحديثة إلى مواكبة التطورات والتحولات التي طرأت على بناء الرواية، فشرعوا في تطوير أساليب الفنية، وتوظيف التقنيات الفنية في بناء المعمار الفني لفن الرواية موظفين في ذلك من وسائل الفنون الأخرى وأدواتها: كالشعر والمسرح والسينما، ومن بين هذه الأدوات؛ تطويرُ لغة كتابة الرواية، فأفادوا من إمكانات لغة الشعر، إلى جانب استخدام لغة الرواية النثرية، فارتقت بذلك لغتهم، وتماست مع لغة الشعر، دون أن تتخلى عن لغة الرواية ذات الطابع النثري؛ ذلك أن الروائيين عملوا على رفع مستوى الخطاب الروائي، انطلاقاً من تحسين الأسلوب والارتقاء باللغة إلى ذُرى جمالية شعرية، تغيب عندها الحدود بين لغة الشعر ولغة النثر، محاولين بذلك تحقيق مطلب فني جمالي، وتسخير أدوات الشعر لخدمة لغتهم.

إن اللغة تمثل المادة الهيولي للنص الأدبي، وهي من أهم عناصر العمل الأدبي، إذ يتطلب النص الأدبي الإبداعي وعياً لغوياً فنياُ وجمالياُ كبيراً، لقد أخذت لغة الشعر في الرواية تشكل مَعلماً بارزاً ومهماً في حداثة الرواية العربية، إن لم تكن تمثل العمود الفقري للتحول من الرواية التقليدية إلى الرواية الجديدة.

ولعل مردّ ذلك يعود إلى جنوح كتاب الرواية للغة الشعر؛ لما تتصف به هذه اللغة من سمات منها: شعرية العتبات النصية، وانتقاء الألفاظ ذات القدرة على الإيحاء والبث، والتصوير الشعري، إنها لغة ذات تكثيف مجازي، واستعاري تتوخَي الإيقاع النغمي في السرد، وتضمين النصوص ذات الإيحاء الذي تتسم به لغة الشعر.

يعد الكاتب “يسري الغول” صوتاً أدبياً متميزاً في عالم الفن القصصي، وصاحب تجربة أدبية ثرية على مستوى القصة والرواية، وهو من بين الروائيين الذين نجحوا في توظيف طاقات اللغة؛ لتوليد نصوص قصصية ذات صبغة شعرية، ومن بين تلك الروايات روايةُ (مشانق العتمة) الصادرة عام ٢٠٢١م عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، في طبعتها الأولى، والتي جاءت في مائتين واثنتين وعشرين صفحة من القطع المتوسط، عُرضت فيها خمس وثلاثون لوحة مشهدية، تحمل كل لوحة اسم شخصية من شخصيات الرواية، تسرد كل واحدة منها حكايتها بضمير المتكلم، وتتناوب الشخصيات فيما بينها الحكي الذي يقدم من خلال خمسة رواة هم: هاجر، سراب، ابن رشد، يونس، وهتلر، وهذه اللوحات يلفها وشاح شفيف ويربطها خيط رفيع، فتبدو كأنها لوحة واحدة متكاملة متوحدة، تروم الكشف عن الثيمة الرئيسة التي تحكيها الرواية، وهي ترصد معاناة الإنسان العربي في ظل الاحتلال وظلم الأنظمة الحاكمة، وتفشي البطالة والسعي الدائب عن حياة أفضل في ظل الحرية والعدل وقيمة الإنسان؛ بوصفه إنساناً يحق له أن ينعم بالأمن والأمان .

وليست هذه الرواية – وحدها – التي تتسم باستثمار اللغة الشعرية في بنائها الفني، فهناك إلى جانبها غيرها من الأعمال التي نسج الكاتب بناءها متكئاً إلى اللغة الشعرية،

إن الدافع الأساس الذي حفز الباحث لاختيار شعرية النثر في هذه الرواية ما كتبه الأديب يسري الغول من مجموعات قصصية وروايات مرده إلى أن أهم سمة تميز أدبه هو إعطاؤه مزيداً من العناية والاهتمام بلغة أعماله الأدبية، فاللغة عنده تمثل أداة تعبيرٍ أساسية ومهمة، وتعد رواية (مشانق العتمة) نموذجاً ملائماً لاستنطاق هذه الظاهرة، من خلال هذا المقال الموسوم بـ) : شعرية النثر في رواية مشانق العتمة ليسري الغول)، فلغة الأديب يسري الغول لغة رصينة، جادة تخلو من الخطابية، ولا تشوبها التقريرية أو التنظير الذي تدفع إليه مثل هذه الأحداث( )، وقد جاءت لغة رواية (مشانق العتمة) لغة سهلة سلسة ومشوقة ومدهشة( ).

فما هو الأسلوب الذي اختاره الكاتب “يسري الغول ” في استثمار السمات الشعرية في روايته؟ وكيف ظهرت شعرية النثر في هذه الرواية؟

للإجابة على هذا التساؤل على الباحث أن يتبين مظاهر الملامح التي تبدت فيها شعرية النثر في الرواية، وهي على النحو الآتـي:

1. شعرية العتبات النصية:

أ – شعرية العنوان:

تجلت شعرية النثر في العنوان الذي يتكون من عبارة شعرية موجزة ومكثفة، فهو يمتاز بالاقتصاد اللغوي، يتكون من مفردتين في صور الإضافة، ويحمل دلالة الجمع؛ الأمر الذي جعله يحتوي في الرواية على أحداث كثيرة. فضلاً عن كونه يمثل المفتاح الذهبي الذي يستطيع المتلقي/ القارئ الولوج من خلاله إلى عوالم النص الأدبي، فمفردة “المشانق” جمع مفردها “مشنقة”، وهي تشي بتعدد دلالاتها، وتحمل معاني إيحائية غنية منها دلالات الألم والمعاناة والموت، فهنالك مشانق الاحتلال والإرهاب، والحصار، والانقسام، وكبت الحريات، وثمة مشانق المهاجرين في انتظار مصيرهم المحكوم بيد تجار الهجرة، وتهريب البشر، وغيرها من المشانق المعلقة للإنسان العربي، يقول الكاتب في افتتاح النص الروائي، يقول على لسان هاجر:

“معلقون على مشانق العتمة، نسبح في دوامة التيه، ملابسنا ثقيلة وأرواحنا ” (ص:٩).

وفي موضع آخر من الرواية يقول على لسان هتلر: ” فاكتشفتُ أن سراب وجهاد معلقان في مشانق العتمة(ص: ١٩٢)، أي: إن المهاجرين معلقون في مشانقهم في انتظار مصيرهم المحكوم بيد تجار الهجرة، وتهريب البشر.

أما مفردة “العتمة”، فهي تحمل رمز السواد، والمعاناة والشدة، والتعب والنصب، والألم النفسي الداخلي، وقد تشظت هذه المفردة في ثنايا الرواية في غير موضع، يقول الكاتب:

– بينما تتلظى في قلوبنا نيران الخوف من العتمة، (ص :11 ).

– من عتمة الزنزانة إلى رحابة الحرية(ص :47).

– طوال الليل، الأنفاس مكتومة، العتمة ضرورة وطنية (ص :81 ).

– أخاف البحر والعتمة(ص :90 ).

– الأطفال لا يعرفون الجحيم الذي سيعيشونه، عندما يكبرون، العتمة سكينة(ص:92 ).

وهذه المفردة تشير إلى أن الأمور والأحداث هي التي تقف حائلاً دون تحقيق كينونة الإنسان العربي التي نُصبت له زمن الضياع والتيه والانقسام الداخلي المقيت، والحروب الداخلية والخارجية التي عصفت بالعالم العربي، وهكذا ترك العنوان القارئ المتلقي متلهفاً إلى قراءته لمعرفة الحقيقة.

يتبين للقارئ/ المتلقي أن العنوان جاء مكتوباً بلغة شعرية، وأنه من العناوين الإيحائية؛ الأمر الذي جعله يخترق انتظار المتلقي بخاصة، فهو يحتوي على دلالات عديدة ومختلفة تحير المتلقي وتدفعه إلى قراءة النص لتفسير المضمون وفهمه.

والنـاظر فــي رواية “مشانق العتمة ” يجـدها تحمـل عنـواناً ذا لغــة مكثفـة محملـة بعنـصر الإثـارة والتّشويق، ويلمس المتلقي – أيضاً- أن ثمة علاقاتٍ قائمةً بين دلائل الألفاظ، بين كل من العتمة والمشانق،

فالعتمة مخيفة مثل المشنقة التي يلفها السواد، والمشنوق يزرق جسمه، ويميل إلى السواد، ثم إن المشنوق لا يعود يرى شيئا، كما أن المرء لا يرى في العتمة، فالعتمة صارت رمز الرهبة كما المشنقة بالإضافة الى المجاز الذي يتسم به العنوان.

وهكذا أدّى العنوان المحوري دوراً مهماً في تشكيل اللغة الشعرية ومن خلال علاقة الاتصال يؤكَد دور البعد الجمالي في هذا الدور.

ب – شعرية صورة الغلاف :

يلمح القارئُ المتلقي ملامح الشعرية في صورة الغلاف، التي يمكن أن يُنظر إليها على أنها علامة أيقونية، تآزرت مع العنوان ومضمون الرواية في إبراز فلسفة الكاتب وتوجهاته الفكرية، وبخصوص غلاف الرواية، فهو عتبة أساسية للدخول إلى عوالمها وموجهاً لا يمكن للقارئ أن يتجاهله، نظراً لما له من دلالة تساهم في توجيه القارئ، ورسم أفق انتظاره، فاللون الأزرق الغامق الذي يملأ ثلثي صورة الغلاف من الأعلى يشي بلون البحر وما يحمل من ظلال تشير إلى المعاناة القاسية التي يتحملها ركاب قارب الهجرة في البحر، ويملأ اللون الأسود الثلث الباقي من الغلاف، وهو –أيضاً- يرمز لقسوة المعاناة والألم، وفي خلفيته تتجلى ملامح أمواج البحر المتلاطمة، وصورة لثلاث شخصيات تكاد تغرق فتطلب النجدة، وهذا الغلاف يتماهى مع ثيمة الرواية التي تشي بما يحمله العنوان من دلالات نفسية ومعان شعورية.

ج – شعرية الغلاف الخلفي للرواية:

أما الغلاف الخلفي للرواية، فقد اكتسى باللون الأزرق امتداداً للون الغلاف الأمامي، وعلى صفحته عرض الروائي عاطف أبو سيف وزير الثقافة الفلسطينية نقداتٍ أدبية تحليلية لرؤية الكاتب وفلسفته في هذه الرواية، أشار فيها بلغة شعرية إلى مضمون الرواية، فكانت هذه النقدات بمثابة مفتاح تأويلي لمضمون الرواية، وهي موجه غني لقراءة المتن الروائي، يقول:

“إنه العبور الذي تسعى فيه السفينة التي تحمل الفارين من اللحظة العربية إلى تحقيقه؛ حتى يجد مسافروها عالماً آخر، يتمكنون فيه من العيش بأمان، فالسياق العربي يتلاقى في البحث عن المنفى المرغوب هرباً من بشاعة اللحظة، في هذا السياق تتلاقى غزة مع دمشق في هجرة الطيور الباحثة عن أحلامها، ثمة انتكاسات وخيبات وصراعات تظهر بقسوة من دون تجميل في عالم يخنق ساكنيه السفينة التي تحمل اللاجئين أيضا تحمل إدانة لهذه القسوة التي تركوها خلفهم بحثاً عن شواطئ تصلح المتأمل( الغلاف الخلفي).

2. شعرية النصوص التراثية:

ومن ملامح شعرية النثر في الرواية؛ توظيفُ النصوص التراثية التي تضفي على النص الأدبي ظلالاً وأبعاداً شعرية تجعله قادراً على التأثير وإحداث الدهشة لدى المتلقي، فقد استثمر الكاتب نصوصاً متنوعة من القرآن، والأمثال العربية، والمقولات النثرية والأساطير وغيرها في سبيل إَضفاء لونٍ من الشاعرية على لغته النثرية.

لقد استحضر ما هو شعري لخدمة خطابه الروائي من جهة، ولخرق أفق المتلقي من خلال صور جمالية ترمز إلى شعرية الحياة وتمدها بملامح فنية وإبداعية جديدة من جهة أخرى، فقد استثمر نصوصاً دينية من القرآن الكريم، وهي نصوص جاءت مذابة في سياق الرواية، إلى الدرجة التي تجعل القارئ الذي لا يحفظ القرآن لا يدرك أنها نصوص قرآنية، يقول الكاتب : ”

“كأن المواطن العادي كان نسياً منسياً عند حدوث كل هذه الأحداث الفاصلة في تاريخ فلسطين” (ص: ٦٠ ).

(مريم: ٢٣( .(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)وهذا النص الأدبي مقتبس من قوله تعالى :

وقال في موضع آخر من الرواية: ” “ونذرت أمي للرحمن صوما ولم تكلم إنسيا (ص: 27).

وهذا النص مأخوذ من قوله تعالى للسيدة مريم -عليها السلام- :

مريم: ٢٦ ).(فكُلِى وَٱشْرَبِى وَقَرِّى عَيْنًا ۖ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ ٱلْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِىٓ: إِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيًّا) )

ويقول في موضع آخر: “وما أن انتهيا؛ حتى تساقط الرطب جنياً على جسديهما”.(ص: ).

وهذا المجتزأ من الرواية يشير إلى قوله تعالى :

(مريم: ٢٥).(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا)

ويقول في الرواية : “واختُزل الوطن في حركة، واختُزلت الحركة في جماعة، والجماعة في سياسةٍ دوليةٍ وقودُها الناسُ والحجارة “(ص: ٦٠). وهذا النص مقتبس من قوله تعالى:

(البقرة : ٢٤ ).(وإن لم تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)

وينقل الكاتب عبارة وردت على لسان “يونس”، إذ تقول”

“أُقدِّم وزملائي الجزيةَ عن يد صاغرين” (ص: ١٤٤).

وأورد الكاتب – أيضاً -على لسان يونس العبارة الآتية:

“ضاقت أمي بي ذرعاً ” (ص : 144 )، وهذا النص مأخوذ من قوله تعالى:

(هود: ٧٧ ).(وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِىٓءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَٰذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ)

ومن النصوص الروائية التي تستدعي نصاً قرآنياً ما جاء على لسان هتلر رجل التهريب السوري، إذ يقول مخاطباً ركاب قارب الموت مبدياً طغيانه وتكبره : ” لمن الملك اليوم أيتها الفلسطينية؟ لمن الحياة العيش الرغيد؟ “(ص : 217).

(غافر ١٦).(يَوْمَ هُم بَٰرِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ شَىْءٌ ۚ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ ٱلْوَٰحِدِ ٱلْقَهَّار)استحضر الكاتب في المقطع الروائي السابق الآية القرآنية في قوله تعالى:

إن اختيار الآية الكريمة هذه دون غيرهـا، لم يأت اعتباطيـاً، ذلك أن الآية القرآنيـة الكريمـة تجسد قول المولى -عز وجل- للناس يوم القيامة، وفيها تتجلى صفة القهار التي تعني الغلبة، فهو قهار لكل شيء الذي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ وَغَلَبَهُ، وَدَانَتْ لَهُ الرِّقَابُ، وخضعت له الألباب( ) ، وهي تناسب حالة الإنسان الطاغية الذي شبه نفسه بفرعون الكافر.

وفي موضع آخر ينقل من الرواية العربية العبارة التالية، ينقل من الرواية العربية العبارة التالية، يقول ابن رشد في حوار مع زوجه هاجر:

“يركلها جنيني المبارك، يضرب جدران الخزان ؛ ليقول لي إن القادم مشرع بالأمل( ص: 54 ).

استدعى الكاتب من رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس) العبارة الآتية التي خاطب فيها أبو الخيزران الرجال الذين ماتوا خنقاً في الخزان: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟”، وقد أوحى الكاتب فيها بدلالات مخالفة، فالجنين يتمرد على الواقع، ويركل جدار بطن أمه، يريد الخروج، فهو يرمز إلى مولد فجر الحياة من جديد.

وفي مقطع آخر يستدعي الكاتب إحدى الروايات العالمية، فيقول:

“كل فلسطين ذهبت مع الريح، ضاعت الأحلام عند مفترق الطرق المظلم… سقط الوطن، وبقيت الثيران تقود الحظيرة”(ص: ١٢٨)، وهذا المقطع الروائي مأخوذ من اسم رواية من الأدب العالمي بعنوان: (ذهب مع الريح)، ‏ للكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل، صدرت عام 1936م، وهي تحكي قصة الحب والضياع والتيه، وفقدان الأمل ( ).

وتقول الرواية على لسان يونس: كانت (هاجر) تريد أن تحيا وتبعث من جديد كعنقاء تبعث من رماد الحزن الوقوف(ص: ١٨٤).

يستدعي الكاتب من الأسطورة المعروفة هذا المجتزأ الذي يشير إلى أسطورة طائر الفنيق الذي يشي بالحياة والتجدد والبعث من الرماد بعد الموت .( )

ومن الأمثال العربية التي استدعاها الأديب؛ قولُ الكاتب: “كأن على رؤوسنا النوارس(ص: 10)، فهذا النص الروائي مقتبس من المثل العربي التراثي الذي يقول: “كـأن على رؤوسهم الطير”، وهو مثل يُضرب للساكن الوادع، والطير لا تسقط إلا على ساكن؛ لوصف حالة تتسم بالسكون والترّقب والخَشي، وحاول الكاتب أن يضفي على توظيفه للنصوص لوناً من الواقعية والصدق، بيد أن الكتب حور في المثل ليجعله ينسجم مع تجربته الذاتية الخاصة، فاستبدل مفردة النوارس( ) بمفردة الطير؛ لتتناسب النوارس مع مشهد البحر، والقارب بين أحضان الأمواج المتلاطمة؛ الأمر الذي عمق من جمال اللوحة، وزادها عمقا ودلالة.

وفي موضع آخر من الرواية يقول:” بلغ السيل الزبى ‘وهو مثل عربي قديم يضرب للأمر إذا تجاوز حدّه ولا يُسْكتُ عنه( ).

ومن المقولات النثرية الشائعة مقولة : “”لا صوت يعلو فوق صوت القنبلة” (ص: ٨١ ).

اقتبس هذا النص من المقولة الشائعة في عالم النضال: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” ( )، إذ أجرى الكاتب تحويلاً على نص المقولة؛ ليحدث لوناً من الدهشة لدى المتلقي، فاللغة لدى يسري الغول لغة انزياحية، ابتعدت عن المدلولات التي أرادها الكاتب.

ومن العبارات التي استوحاها من الثقافة العالمية قولهم: “أنا ومن بعدي الطوفان”، (ص:113 ). إذ وردت هذه العبارة على لسان (هتلر) زوج (سراب) السورية الهاربة وابنها (جهاد) من بطشه، وهو قول فرنسي منسوب إلى مدام دي بومبادور، عشيقة لويس الخامس عشر، أرادت من خلالها رفع معنويات ملك فرنسا بعد إحدى المعارك( ) ، ويشير هذا المثل إلى أنَّ الكبرياء والغرور، وحب الذات صفة أساسية في بعض الناس الذين يحاولون الكسب ولو على حساب مصلحة الآخرين، وهو مَثَلٌ يتماهى مع رغبة هتلر الشريرة الجامحة في إغراق سائر ركاب قارب طالبي اللجوء في رحلتهم في البحر؛ لكي يعيشوا في حرية.

إن استدعاء النصوص التراثية ينم على مخزون ثقافة الكاتب وعمقها، وسعتها التي تنوعت، فشملت ألواناُ مختلفة من المعارف والثقافة؛ الأمر الذي أغنى الرواية وجعلها قادرة على الإيحاء والبث؛ وجعلها تضفي على النصوص سـمة الشعرية، وجعلها قادرة على أن تلامس شواطئ لغة الشعر.

إن توظيف النصوص التراثية بأنواعها، يعبر عن سعة الثقافة والاطلاع التي يحظى بها الأديب، وجعلته يقف في مصاف الكتاب المبدعين.

 

3 – الإيقاع:

يعد الإيقاع عنصراً مهماً من عناصر الشعرية، وقد تحقق الإيقاع في رواية (مشانق العتمة) بنسبة كبيرة جداً، ويتجلى أثر الإيقاع في خطابات الرواية بأسره، ويجده المتلقي بأشكال مختلفة في هذا النص الروائي الأدبي.

ويمكن للمتلقي ملامسة شعرية النثر في لغة الرواية في بنيتها الصوتية المتجسدة في الإيقاع الذي لا تخلو منه الرواية، إذ يتولد الإيقاع من التكرار والجناس والتضاد، وتتولد ملامح شعرية النثر من خلال التشابه بين الألفاظ، وهو ما يعرف بالجناس، حين تجتمع لفظتان في الحروف، وتختلفان في المعنى، فيحقق هذا الأمر إيقاعاً فارقاً مائزاً حيث يقول الكاتب مستثمراً بنية الجناس، يقول الكاتب:

” المسافة بين العاصفة والعاطفة قريبة”(ص: ١١).

تجلت جمالية الإيقاع من خلال تقنيات التكرار: تكرار ألفاظ بعينها، مثل قول الكاتب:

-“تموت مرات ومرات” (ص: 23).

– وغزة تغيب عن عيني شيئاً فشيئاً(ص: 114).

“- كان القارب بعيداً؛ لذا أسرعتُ أكثر فأكثر حتى وصلتهم (ص:٢١٦).

-“حملتُ (مريد)، وابتعدتُ عن الغرقى، وأنا ألهثُ وألهث”( ص : ٢١٤ ).

– الشبان يغنون، يصفقون، يكبرون، كأنهم في يوم عيد (ص:١٠(.

إن تكرار الأفعال الثلاثة يعطـي إيقاعاً موسيقياً فكأن القارئ يقـرأ نصاً شـعرياً مليء بالحيـاة والحيوية.

وتكررت في الرواية غير مرة بعضُ العبارات؛ حتى غدت لازمة لغوية تولد عنها إيقاع نغمي رقيق قربها من لغة الشعر مثل عبارة :

–كل شيء سيكون على ما يرام. (ص:١٠( .

– كفارسٍ عظيمٍ يقف يونس فوق القارب، وكلماته ناموس مقدس يتلوه أمام مريديه: “كل شيء سيكون على ما يرام” (ص: ٧٢).

وتعلق هاجر على تكرار زوجها لهذه العبارة، كل شيء سيكون على ما يرام، فتقول:

“في الكلمة أوجاعٌ لا تخفيها الحروف، يكذب وهو يعرف أنْ لا شيء سيأتي ليصبح مراماً، ربما ابتسامته من كانت مرامي الذي لا أستطيع بلوغه مذ صعدنا القارب”(ص:٣٧). لقد غدا تكرار هذه العبارة يمثل لازمـة لغوية تتكرر بعينهـا، ويضفي تكرار هذه اللازمة إيقاعـاً موسـيقياً علـى القطعـة النـصية بأسرها.

ومن العبارات التي ترددت غير مرة على لسان يونس قوله:

” سأهاجر وأترك بلاد العرب والمسلمين”( ص: ٦٧).

يتولد من ترداد هذه العبارات إيقاعٌ نغميٌّ يعكس مدى رغبة الشخصيات الجارفة في الهجرة من عوالم داخلية مأزومة.

وتبدت جمالية الإيقاع كذلك من خلال تكرار أصوات الحروف للتعبير عن تجارب الشخصيات الذاتية، وما تحمله من رؤى وأفكار، ويتبدى ذلك في الحوار الذي دار بين سراب وهاجر على ظهر قارب الهجرة:

– أنا سراب من حلب.

– أهلاً سراب، لا تقلقي.. سنصل سالمين إن شاء الله، فالمسافة قصيرة بيننا وبين الجزيرة اليونانية حسبنا يقول الكابتن.

–أنا خائفة جداً؛ لأنني وحيدة، طفلي هو ظلي ورَجُلي.

– وأين زوجك؟ (ص: ١٢( .

يجري الحوار بلغة سهلة سلسة مأنوسة، في جمل قصيرة متقطعة، فالخوف والقلق يولدان في نفسية الشخصيات التوتر، وعدم القدرة على الاسترسال، ويلحظ المتلقي في الحوار تكرارَ أصوات بعينها، فصوت (السين) يتردد في جنبات الحوار غير مرة، وهو صوت سهل المخرج يساهم في التنفيس عن الأحاسيس المكبوتة، وتكرار صوت (النون) يحمل رنة حزن وأسى، فضلاً عن تكرار ياء المتكلم في المفردات التالية: (طفلي، ظلي، رَجُلي)، وهي بمثابة جمل متوازنة، ومسجوعة تضفي إيقاعاً خاصاً.

إن تكرار مثل هذه الألفـاظ، يبعث شعوراً بالمأساة التي تعاني منها سائر الشخصيات المهاجرة، إن الإيقاع المتكرر في رواية (مشانق العتمة) يـوحي بإيقـاع الـضياع والتيه والحزن لدى شخصيات الرواية. وممـا لا شـك فيـه أن يجـد المتلقي الكآبة والحزن والقلق والخوف تخيم على الرواية شخوصاً وأمكنةً منذ بدايتها إلى نهايتها

وثمة طباق في بني الرواية، يضفي لوناً إيقاعياً جميلاً يشد المتلقي؛ لأن اجتماع الضدين يُحدث خلخلة إيقاعية لافتة. ومثال ذلك قوله الكاتب:

“- ذاهبون إلى الجنة بدلاً من جحيم الوطن(ص: 11).

“- جئتهم باكياً، وهم يضحكون، كأي عائلة تاقت لاحتضان رضيع سيأتي على عطش. )ص:26).

-“خرجت من سجن معبأ بالوطن والكرامة، إلى سجن ضيق مليء بالكراهية والأحقاد” (ص:49 ).

وترددت في الرواية ألفاظٌ تحمل ثنائيات ضدية مثل : الحرية- المعتقل، الوطن-المنفى، الانقسام- الوحدة، الاعتدال- التطرف، العدل- الظلم، الموت- الحياة، الهجرة-البقاء، الضحك – البكاء، الغرق – النجاة، كلها ثنائيات تبلور رؤية الكاتب للعالم كما يطمح، لكنه يصطدم بقتامة هذا الواقع وكابوسيته، إنها شعرية التقابل والتضاد المعبرة عن الحالة النفسية المأزومة لدى الكاتب يسري الغول، ويكشف التضاد -أيضاً- عن رؤية الكاتب إلى جوهرَ الحياة القائم على توازي الضدين.

ومن المعلوم أن شيوع ما يسمى بالإيقاع المأساوي، والذي يعنـي أن بناء الروايـة علـى المأساة، والألم والحروب على طول العمل الروائـي، والـذي يتبدى عنـد هاجر وسراب ويونس، يجسد الحالـة الـشّعورية العامـة التي تعيشها الشخصيات المهاجرة تتسم بالحزن والضيق والتيه والضياع. ويمكن القول بأن الكاتب لـم يلجـأ إلـى الإيقاع النغمي بصورة متكلفة ؛ وإنما جاء الإيقاع ودلالاته بشكل طبيعـي، يجـذب الـنفس؛ لمـا فيهـا مـن متعـة واستحسان.

3. انتقاء الألفاظ الشعرية:

من المعلوم أن ألفاظ اللغة تحمل طاقاتٍ إيحائية ذات دلالات متعددة، إذ تتحول المفردة الواحدة من خلال توظيفها في النص النثري إلى مفردة شعرية لها من الظلال والإيحاء الكثير من الدلالات والمعاني، فتَنقُل للمتلقي تجربة الكاتب النثرية في سياقات شعرية.

فالألفاظ في سياق الرواية تُشحن بمعانٍ تختلف عن دلالتها المعجمية، فتكتسب طاقة إيحائية تعكس غنائية الرواية ومن الألفاظ التي شحنت بطاقات ودلالات إيحائية في الرواية أسماء شخصيات الرواية وهي: هاجر، ويونس، وسراب، وهتلر، وابن رشد.

فاسم (هاجر) يوحي بالهجرة المستمرة والمتعددة عن الوطن، تزوجت هاجر أولاً من ابن رشد، وبعد استشهاده تزوجت يونس الذي خاضت معه رحلة الهجرة إلى غير بلد، واسم هاجر يستدعي هاجر- رضي الله عنها- زوج سيدنا إبراهيم – عليه السلام- التي عاشت شطراً من حياتها في الشتات.

أما اسم (سراب)، فيوحي بالخداع والكذب والمخاتلة، فلقد خُدعت هذه الفتاة السورية بزوجها يزيد (هتلر) الذي يعمل في سلك الأمن السوري، والذي عذبها وقتلها وابنها -خطأ – في قارب رحلة الهجرة.

واسم (ابن رشد) يوحي بالحكمة والاطلاع على شتى العلوم، وكذلك للآراء المعتدلة والتحررية التي لا تتناغم مع أفكار الجهة التي ينتمي إليها، وقد توفاه الله بعد معاناة الأسر، ومن ثم الحصار والمرض، وكذلك مطاردة الاحتلال الصهيوني له .

أما يزيد (هتلر)، فهو الشخص الذي يمارس الظلم والبطش بالسجناء السوريين، خطب سراب وتزوجها، وقُتلت سراب على يديه بالخطأ في قارب النجاة، وتسبب في غرق قارب الهجرة .

واسم (يونس)، ذلك الشاب الخريج الذي تزوج هاجر، والذي مات غرقاً؛ الأمر الذي أضفى سوداوية على النص، وزاده كآبة وقتامة وكابوسية. واسم يونس يستدي اسم النبي يونس الذي أنقذه الحوت بأمر من الله من الغرق، بيد أن دلالة الاسم في الرواية دلالة معكوسة، فالموت هو الغالب على النص، ولا يبقى سوى الهجرة، فقد أُوحي لأمه يوم ميلاده كما جاء في النص: أنه “سيكون ابن اليم، سفينتكم لتعبروا به الحياة” (الرواية ٢٧ ).

ويلتزم الكاتب في الرواية بالدلالات المعجمية للمفردات، فالألفاظ تكتسب دلالات أخرى تحقق الدهشة والمفاجأة لدى المتلقي.

ويتردد في الرواية مفردات لغوية ذات دلالات كثيرة يمتاحها الكاتب من الواقع المعيش المتأزم مثل: القارب، التيه، الأمواج، الشاطئ، الهجرة، البحر، النجاة، الغرق، الخوف، الأمان، الوطن، فلسطين، الحصار، الحواجز، معابر، وحدود، وعواصم، وموانئ، ومطارات. هذه الألفاظ تحمل ظلالاً وإشعاعات موحية تضفي على النص الروائي مسحة شعرية مؤثرة .

5 – شعرية الصور الفنية:

يمثل التصوير الفني سمة بارزة من سمات اللغة الشعرية التي تجلت في السرد الروائي؛ الصورُ الفنية المبنية على المجازات والاستعارات والرموز، وعلى الدلالات الحسية، فقد استعارت الرواية لغة النثر الإخبارية من الشعر لغتَه التصويرية الإيحائية.

إن القارئ لرواية “مشانق العتمة” يجدها قد اعتمدت على لغة الشعر التي تتجلى في مجموعة من العناصر والمستويات التي تتوزع في بنيتها الفنية : الصور الفنية، والصور البيانية التشبيهية، والعبارات والتراكيب اللغوية، هذا فضلاً عن اللغة ذات الحمولات الدلالية الرمزية.

وقد تجلى ذلك من خلال مجموعةٍ من الجمل والتراكيب التي نورد منها النماذج التالية:

-تقول هاجر: “حوار طويل يذوب مع الوقت، ينحسر مع الريح، والقـارب يواصل سـيـره في دهاليز الخوف” (ص: (13.

– “صوتها كان ناعماً، رقيقاُ كانسياب نهر) ” ص:١٤٧ ( .

“-ما إن خلدت في فراشها حتى جاءها وحي من السماء، نفخ في روحها ثم قال: سيكون ابن اليم

سفينتكم؛ لتعبروا به الحياة”(ص: ٢٧).

“-القاربُ يغني الماء والزبد (ص: 103).

– “القاربُ يغني مع الرفاق، الرحلةُ تطول، تصبحُ دهراً، تعثر أحد الركاب، فاهتز القارب في هذا البحر اللجيّ العميق، وليله الملهم”(ص: 101).

-“الصواريخ تشْرَع بالغناء، والنهار لا ينجلي، الليل مُلوَّن بالبرتقال )ص: ٨٤ . (

“- تسير الحافلة بقدم مبتورة كسلحفاة لم تجد غير الأزقة لتمارس لعبة العبث بمن تتُوق أرواحهم للخروج من عنق الزجاجة، وغزة تغيب شيئاً فشياً عن ناظري “(ص: ١١٤(.

“اختلط الدم بالماء، فصار البحر وحشاً مفترساً جائعاً، والقمر يضيء السماء برغم العاصفة… وبقيتِ النساء تشرب الملح، وترتوي بالموت؛ كي تصيرَ براميلَ متفجرةً تَسقط على رؤوس بقية المهاجرين في الوطن”(ص : ٢١٧).

المتأمل في مثل هذه الجمل والتراكيب اللغوية يدرك مدى توظيف الكاتب لعناصر التشخيص والتجسيد والرموز، وتراسل الحواس، ويلحظ المتلقي أن الكاتب يسعى إلى إكساب النثر السردي أبعاداً شعرية عالية من خلال رسم مشاهد مبنية على الانزياح المجازي والاستعارات والتشبيهات والرمز، والصور اللونية، والاقتراب إلى حد كبير من لغة الصور الشعرية، من حيث اعتمادها على الإيحاء والتكثيف الفني، فضلاً عن مجموعة من التراكيب غير المألوفة للسياق اللغوي.

إن نظرة فاحصة إلى توظيف الصور الفنية في الرواية تهددي إلى القول بأنها تشغل مساحات واسعة داخل النص الروائي، فهو تأتي لخدمة الأفكار والتأملات وأهميته لا تظهر إلا من خلال السياق الذي يتحوّل فيه إلى قوة إيحائية، كذلك يتناول الانحراف «المجاز» باعتباره خرقاً لقانون الكلام العادي.

وثمة تراكيب لغوية ينبعث منها لغة تقترب من لغة الشعر، ومن هذه التراكيب: قوارب الموت، جحيم الوطن، براثن الموت، تجار الموت، رحلة العذاب، برّ الأمان، رحلة العذاب، قارب النجاة. وغيرها.

إن هذه الصياغة اللغوية قد ساهمت – بلا شك في- تجسيد الدلالات والمعاني الرمزية الكامنة وراء هذه الجمل والعبارات التي أضفت على العديد من مقاطع الرواية روحاً شعرية، كان لها تأثير بليغ في نفسية المتلقي من جهة، وتحقق شرط الشعرية في رواية(مشانق العتمة (من جهة ثانية، ولا يخفى أن هذه اللغة الشعرية تحتاج من القارئ المتلقي قدراُ كبيراً من الإدراك والتأمل والترويِّ؛ ليتمكن من فضِّ بعض مغاليق هذا المتن الروائي؛ وليتخذ بذلك من اللغة أداة تعبيرية تتشكل من خلالها تجربته الروائية؛ الأمر الذي جعل من رواية (مشانق العتمة) تجربة من التجارب الروائية العربية التي تتوسل باللغة الشعرية وآلياتها؛ للتعبير عن رؤى الكاتب من ناحية، ولتوليد العديد من الدلالات والإيحاءات التي تحيل على معانٍ وحالات نفسية محددة من ناحية أخرى.

إن لغة هذه الرواية تتسم بالغنى والتجدد من خلال اعتمادها على الصور الفنية، وعلى العديد من العبارات الموحية؛ الأمر الذي ساهم في شدّ اهتمام القارئ وإغرائه بمتابعة القراءة، وملاحقة الشخصيات والأحداث والوقائع الروائية التي أكسبتها هذه اللغة الشعرية ظلالاً وإيحاءات وخيالات، ساهمت في حركية الشخصيات وفي تطوير الأحداث ونموها .

وبذلك أصبحت الشعرية ملمحاً من الملامح البارزة في الرواية العربية الحديثة، التي أصبحت لغتها تقترب من لغة الشعر، وتستعير طرائقه وتقنياته وجمالياته الأسلوبية؛ بهدف التأثير في القارئ المتلقي.

6 – شعرية لغة الوصف:

تتسع في هذه الرواية مساحة الوصف الشعري الذي يعد أحد العناصر المهمة في بناء الرواية إلى جانب السرد والحوار ، ويمثل الوصف وقفة في مسار أحداث الرواية وزمنها، ويفضي إلى بطء في إيقاع الرواية الزمني. يخضع الوصف في أحد مستوياته إلى جوّ الرواية وفكرتها ومشاهدها الواقعية، وإلى طبيعة التجربة المعيشة للشخصيات.

فالشخصيات هاربة من الحياة المضنية في بلادها، تروم الهجرة عن طريق البحر إلى أيّ مكان آمن، فكان من الطبيعي أن يخصص الكاتب الجزء الأكبر من الوصف لرحلة الهجرة عبر البحر في قوارب مطاطية، وما يحيط بهذا المشهد من: قوارب، وأمواج، ورياح وعواصف، ومهاجرين، إذ تصف هاجر على لسانها منظراً من مناظر الطبيعة الممتزج بمشاعر الخوف والقلق في أثناء هجرتها، فأضفى عليه لوناً من الحركة واللون والصوت، فزاده جمالاً وإيحاء، تقول هاجر:

“كان منظر الثلج وهو يتساقط على مـدرج الطائرة يشكل مشهداً خرافياً لم يحدث أن رأيتُ مثله من قبل، مشهد فاتن يبثُّ السكينة في القلب، الأنوارُ الساطعةُ برغم ندف الثلج… قلبي ينبض بالخوف، لقد اجتزنا المرحلة الأولى بسلام، وخرجنا من مملكة الخوف إلى رحاب القبعات الفرو والأسمال الثقيلة) الرواية: 158)، استخدم الكاتب في هذا النص الروائي اللغة الوصفية الموحية ذات الدلالات المعبرة.

فمن خلال آلية الوصف التي وظفها الروائي، يلحظ القارئ أن الأديب أبدع في وصف الأحداث لا سيما تساقط الثلج إلى الحد الذي يشعر فيه المتلقي بأنه أمام عين آلة تصوير راصدة ترصد بشكل متقن ما أمامها وما حولها, فكانت الأحداث تسير على نحو متتابع ومتنامٍ إلى أن تصل إلى الغاية التي يروم الكاتب الوصول إليها.

وفي مقطع آخر يعبر الكاتب بلغة شعرية عن حيـاة طالبي الهجرة والاغتراب، إذ إن وصف للمهاجرين في قوارب الموت جاء مترعاً بالألفـاظ والعبـارات الـشّعرية الموحيـة بهول البحر وأمواجه الهادرة التي تنشر الخـوف والرعـب فـي أرجـاء القارب، مـستخدماً العبارات المعتمـدة علـى الصور التشبيهية الموحيـة مثـل وصف الكاتب الذي يقول فيه:

” فالأمواجٌ تعلو، والقاربُ يـتـحـرك كـراقـصـةِ باليه برقصات متعثرة، غاضبة حيناً، وغير منتظمة أحياناً، قلوبُنا تنتفض، فيضحك مَنْ يقودُ القارب بصخب دون أن يأبه لبكاء الأطفال أو ثرثرة المحطمين : – لا تخافوا ؛ فالأمواجُ هادئةٌ مقارنة بما رأيناه خلال الأشهر المنصرمة( ص ٣٥).

قام الكاتب برسم مشهد البحر وأمواجه الغابة في شكل لوحة زيتية من خلال وصفها وصفاً في غاية الدقة، جاعلاً منها مشهداً ماثلاً أمام القارئ، وهكذا أضاف الوصف في هذه القطعة الروائية قيمة جمالية عالية للنص.

وفي موضع آخر يصور ابن رشد مشاعر الحب والعواطف الإنسانية المتوهجة تجاه زوجه هاجر، يصف في مشاهد رومانسية عاطفية تلخص تجارب الهجرة من جحيم المتاعب والقلق، فيقول ابن رشد قبل أن يستشهد مخاطباً زوجه هاجر فيقول:

“هاجر. . يا جنة الله في أرضه. يقولون: إن الموت كـأس والكل ســيـرتوي منه حـتى الثمالة، فلا تتعجلي الارتواء، اخرجي إلى العالم بوجه جديد يعيش الجنون والشغف، أخرجي للناس من أرضك ينبوعاً وأطفالاً رائعين، وداعاً يا شمسي المشرقة. وداعاً يا سمائي الغارقة في اللازورد، العابرة في متن القصيدة، الموغلة في وحشة الحروف، وداعاً فلم أكن لك سوى حلم ، فاتركيه وابحثي عن حلم جديد ) ص:١٧٧).

ويبدو وصف الشخصية في الرواية تقنية أثيرة للتعرف إليها وإلى سماتها العامة، إذ يعمد الكاتب إلى وصف ملامح بعض شخصيات روايته جامعاً بين أبعادها الخارجية، وعالمها الداخلي وطباعها وسلوكها ومهنتها وتفاصيل حياتها في الماضي والحاضر, كاشفا بذلك عن دوافعها وغاياتها ومفسرا مواقفها الخفية والمعلنة بلغة شعرية، يقول على لسان سراب، وهي تصف زوجها هتلر:

” رأيتـه وقـد بان عليـه الـهَـرَم، وتغـيـرتْ أحواله، وجهُه صار أكثر خشونة، عيناه جاحظتان، لحيتُه كبيرة وبيضاء، ارتعدتُ خوفاً، هربتُ من المكان إلى أيِّ زاوية أختبئ فيها كي لا يراني، حاولتُ أن أخبئ وجهَ طفلي، هرولتُ بسرعة أكبر من أمامه إلى زاوية مقهى للمهاجرين، تأكدتُ إنه موجودٌ بشحمه ولحمه( ص: 204 ).

وهذا التنوّع في الوصف بين معالم الشخصية يسهم في إبراز الشخصيّة الروائية، وبلورة الانطباع العام عنها، كما يمنح المتلقّي المفاتيح الأولى لفهمها والدخول إلى عالمها.‏

7 – شعرية النزعة الذاتية الوجدانية:

يعد التعبير الذاتي من المميزات الرئيسة للقصائد الشعرية التي وظفها الشاعر للتعبير عن رؤيته للحياة والكشف عن أبعاد عالمه النفسي.

ومن المعروف أن نصوص الشعر تتصف بالنزعة الذاتية و الغنائية الوجدانية وعلى الجنون لاستخدام ضمير المتكلم ومظاهره الأخرى.

ومن التقنيات التي وظفها الكاتب للارتقاء بمستوى لغته، وليله لغته أقرب للقبيلة من للرواية ؛ التركيزُ على المشاعر العاطفية والوجدانية والذاتية، وضمير المتكلم، الحضور الطاغي للأنا ومختلف مظاهره.

فقد اختار لروايته رواة يسردون بضمير المتكلم إضفاء شيء من الواقعية على نصوصهم الخيالية والارتقاء بها إلى مستوى لغة الشعر ، ففي هذه الرواية يتم السرد بضمير المتكلم على لسان الرواة الخمسة الذي يعد كل واحد منهم بطلاً من أبطال الرواية.

ففي أحد مشاهد الرواية يدع المبدع الفتاة السورية سراب تبوح بمشاعره الذاتية ، وكيف تعرفت على زوجها لأول مرة، تسرد فتقول:

” في أثناء الطريق شعرتُ بالاغتراب، كأنني أكتشف المكان للمرة الأولى، الشوارع فارغة، جميلة مرتبة، قليل من المارة يسيرون بخطى رتيبة، الضباب يغلف محطة الانتظار، أسندت كـتـفي على عـمـود عـريض لإشارة مـرورية، كدتُ أغـفـو لـولا حـضـوره البهي، جـاء فـأيقظَ حـواسي كلها ، صـار قلبي يخفقُ بشدة، والشابُ يكاد من فرط اللذة يتكلم، كـأن الـشـمسَ أشرقتْ من وجهه، ابتسامته غريبة/ لذيذة/ شهية. وقفتُ بشكلٍ جيدٍ، وهو يـسـيـر بـجـواري، أحـتـرمُ حـضـوره كجندي في طابور الصباح، تنشقتُ عطره/ سحره، ثم مضى كلٌّ منا في طريقه ( ص : ١٤).

وهكذا ينهض السرد بضمير الأنا أو نحن بوظيفة درامية وجمالية؛ في لغة رقيقة وجدانية تشف عما يعتمل في قلب السارد من أحاسيس أو في عقله من أفكارٍ ورؤى؛ ليرتقي المستوى الجمالي الفني للغة النثر إلى مستوى لغة الشعر.

يقول السارد على لسان سراب مستخدمة ضمير المتكلم:

“في أثناء الطريق شعرت بالاغتراب، كأنني أكتشف المكان للمرة الأولى، الشوارع فارغة، جميلة مرتبة، قليل من المارة يسيرون بخطى رتيبة، الضباب يغلف محطة الانتظار، أسندت كـتـفي على عـمـود عـريض لإشارة مـرورية، كدت أغـفـو لـولا حـضـوره البهي، جـاء فـأيقظ حـواسي كلها، صـار قلبي يخفق بشدة، والشاب يكاد من فرط اللذة يتكلم ، كـأن الـشـمس أشرقت من وجهه ، ابتسامته غريبة/ لذيذة/ شهية . وقفت بشكل جيد وهو يـسـيـر بـجـواري، أحـتـرم حـضـوره كجندي في طابور الصباح، تنشقت عطره/ سحره ثم مضى كل منا في طريقه”(ًص: 14 ).

ويحاول الكاتب أن يراوح بين ضمير المتكلم، وضمير الجمع، ففي مفتتح الرواية تسرد هاجر بضمير (نحن) حكايتها، وهي في قارب الهجرة في وصفٍ مشهدي جذاب، تقول:

” معلقون على مشانق الـعـتـمـة ، نسبح في دوامة التـيـه ملابسنا ثقيلة وأرواحنا كذلك . نجلس متراصين بانتظار صعود الـقـارب ، والناس تتكدس عند الشـاطئ ، في تسليـم كـامـل لأصوات التجار/ قباطنة الهجرة المتناثرين في المكان،،، الصوت الخشن يأمرنا بركوب القارب واحداً واحداُ،… نعتزل أنفسنا في حيوات اللحظة، فنلتصق بمن حولنا”(ص:٩ ).

وجملة القول، فقد استطاع الأديب في نصوصه الروائية أن يدغم الهم الذاتي بالهم الجمعي العام، فيعبر من خلال النص الروائي عن هموم الإنسان العربي وأحزانه وآلامه داخل وطنه؛ لأنها تشعر بأن مأساتها جماعية وليست فرية ذاتية، فهي ليست وحدها مَنْ يعاني.

وجملة القول، فقد استطاع الأديب في نصوصه الروائية أن يدغم الهم الذاتي بالهم الجمعي العام، فيعبر من خلال النص الروائي عن هموم الإنسان العربي وأحزانه وآلامه داخل وطنه؛ لأنها تشعر بأن مأساتها جماعية وليست فرية ذاتية، فهي ليست وحدها مَنْ يعاني.

واتضح كذلك أن الأديب قد استخدم في لغته الروائية مظاهر اللغة الشّعرية مـن الإيقاع، والتكـرار وتوظيف النصوص التراثية الـتي ينبئ استدعاؤها عن المخزون الثقـافي والفكـري للروائـي، ومـن المعلوم أن شـعرية الرواية هي ما يجذب المتعة والإثارة للمتلقي وتسمو بمكانة الرواية ومنزلتها.

يظهر تمازج الشعري بالنثري في الرواية، فالحضور الشعري في الكتابات الروائية أصبح ضرورة حتمية وشكلاً من أشكال التعبير الأدبي الفني، وقد تحكم الكاتب في لغته الروائية، بحيث ظهر ذلك جلياً في التوازن بين الجانب الإيحائي فيها، والجانب التقريري، على الرغم من أن الروائي وظف فضاء خيالياً واسعاً، فإنه تخلى في بعض المقاطع عن لغته الشعرية، فجاءت بعض المشاهد بلغة تواصلية تبليغية؛ لأن الحدث الروائي يقتضي ذلك .

وقد اختار الكاتب الألفاظ المناسبة؛ بوصفها الوسيلة الأكثر تعبيراً عن التجربة العاطفية من جهة، والقدرة على التأثير في المتلقي من جهة أخرى

حاول الكاتب استخدام المؤثرات اللونية والحركية من خلال الوصف الدقيق للغوص في أعماق الشخصيات ومعرفة مكنوناتها.

المصادر والمراجع:

)يسري الغول ومشانق العتمة، محمد نصار، روافد بوست. www.rawafidpost.com archi
) سؤال الهوية في رواية مشانق العتمة: قراءة انطباعية، شفيق التلولي، نداء الوطن ٠٣‏/٠٩‏/٢٠٢١
. https://www.nwatan.ps
) الجامع لأحكام القرآن ، القرطبي ، دار الكاتب العربي ، القاهرة ، ١٩٩٧م،15 / 300.
) ينظر مقال: ذهب مع الريح -المعرفة https://m.marefa.org
) لسان العرب، ابن منظور، والعَنْقاء: طائر ضخم ليس بالعُقاب… وقيل: سمِّيت عَنْقاء؛ لأَنه كان في عُنُقها بياض كالطوق، باب السين، فصل النون.
) النوّرس: مفردها نورس وهو من الطيور المائيّة، بيضاء اللون، يرمز للتّرحال، والشوق، والوحدة، فهي تسافر مسافة حوالي خمسة آلاف كيلو متراً بحثاً عن الدفء في فصول الشتاء، لتعود مجدداً عند تحسّن الطقس. https://m.marefa.org
) لسان العرب، ابن منظور باب الواو والياء، فصل الزاي. والزبى: جمع زُبْيَة، وهي الرابية لا يعلوها الماء
) ينظر: كتاب عمون، وكالة عمون الاخبارية. https://www.ammonnews.net
) ينظر: مقولة: أنا ومن بعدي الطوفان، https://www.knooznet.com

 

 

نداء الوطن